يشكل البحث في التاريخ البحري لبلادنا إحدى المواضيع التي تحاول الجامعة المغربية فتح نقاش فكري وأكاديمي حولها من خلال البحث التاريخي الذي يظهر كأحد الحقول المعرفية الرئيسية التي يمكن من خلالها رصد الجذور التاريخية للممارسة البحرية في المغرب بأشكالها المتعددة ضمن سياقات و ظرفيات متعددة، في أفق رهان تشكيل رصيد بحثي قادر على تقديم تفسير نسبي ورؤية أقرب إلى الشمولية تمكن الباحث المختص وباقي المهتمين بتاريخ البحر في المغرب من فهم التحولات التاريخية التي عرفها هذا الأخير في ارتباط بباقي مستويات الفعل التاريخي أساسا الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية. ضمن هذا السياق احتضن فضاء قاعة عبد الواحد خيري بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك الدار البيضاء في بداية هذا الموسم الجامعي يومه الجمعة 06 أكتوبر 2023 حوالي الساعة العاشرة صباحا، مناقشة لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب تكوين “المغرب والعوالم الغربية” في إطار البحث الذي قدمه الطالب الباحث مصطفى الزعير تحت عنوان “الصيد البحري بالمغرب زمن الحماية الفرنسية 1912-1956” بإشراف من أستاذة التاريخ بنفس الكلية الدكتورة ليلى مزيان. وقد عملت لجنة المناقشة التي ترأستها أستاذة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية المحمدية الدكتورة مليكة الزاهدي و ضمت في عضويتها كلا من الأستاذة المشرفة وأستاذ التاريخ جلال زين العابدين و أستاذ التاريخ بكلية الآداب و العلوم الإنسانية الجديدة علي الهدهودي و أستاذة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ابن مسيك الدار البيضاء سناء حساب على مقاربة هذا العمل البحثي الذي قدمه الطالب الباحث الزعير عبر رصده من زوايا نقاش متعددة حاولت أن تستجيب في مجملها إلى ضرورات الكشف عن الأبعاد الإشكالية والمنهجية و الشكلية و الموضوعاتية التي أطرت هذا العمل.
وقد عمل الباحث مصطفى الزعير في البداية على تقديم ورقة تعريفية بهذا المنجز الأكاديمي من خلال تحديد العمق الإشكالي الذي حرك العمل ككل والمرتبط أساسا بالرغبة في الكشف عن التحولات التي همت قطاع الصيد البحري في بلادنا عبر منهج مقارناتي رام من خلاله الزعير تتبع معالم حركة هذا التطور على المستوى التنظيمي والقانوني والبشري و الإنتاجي داخل وعاء الزمن الطويل نسبيا وصولا إلى تناوله داخل فترة الاستعمار الفرنسي للبلاد المغربية أو ما يصطلح عليه في الوثائق التاريخية بفترة الحماية. بالإضافة إلى عرضه لمعالم المادة المصدرية المعتمدة في إنجاز هذا العمل و التي حضر فيها الأرشيف الفرنسي بقوة مقابل الصعوبة التي وجدها الباحث على حد قوله للوصول إلى الأرشيف الرسمي للوزارة الوصية على هذا القطاع موضوع البحث في بلادنا. وقد انصبت مجمل مداخلات أساتذة لجنة المناقشة بشكل عام في اتجاه الوقوف على مكامن القوة داخل هذا العمل مع بسط بعض الملاحظات التي همت بعض الجوانب المعرفية والشكلية واللغوية داخل هذه الأطروحة، والتي أكدت في مجملها على جدية الموضوع الذي تقدم به مصطفى الزعير طالما أنه محاولة رصينة للكشف عن جوانب من التاريخ البحري والاقتصادي للمغرب متعلقة بحقبة تاريخية لم يسلط عليها ضوء البحث التاريخي المغربي بما فيه الكفاية إلى حدود الآن وهي فترة الحماية الفرنسية طالما أن المواضيع التقليدية في البحث التاريخي لهذه الفترة ظل منحصرا في المشهد السياسي و أشكال المقاومة داخل الحركة الوطنية حسب تعبير أحد أعضاء نفس اللجنة. وأيضا تم التعبير من طرف هذه الأخيرة في العموم على القيمة الإشكالية للأطروحة التي جاءت على ما يبدو من المناقشات لتبحث في المستفيد التاريخي من اللحظة الاستعمارية في شقها الاقتصادي بالمغرب؟ وما حجم استفادة المغاربة من ما خلفته إدارة الحماية الفرنسية من تحولات بنيوية مست الصيد البحري كقطاع اقتصادي؟ ولم يفت اللجنة المذكورة الإشادة بقوة المادة الأرشيفية التي استند عليها الباحث من أجل إنجاز هذا العمل والتي احتلت فيها الوثائق الفرنسية مساحات مهمة إلى جانب وثائق مغربية وأجنبية أخرى ضمن نسق من التعبير الرقمي والمبياني اختار من خلاله الزعير تحليل الموضوع و مناقشة النتائج ومقارنتها مستعينا في ذلك بالتكامل المعرفي والمنهجي مع عدد من العلوم المساعدة كعلم الإحصاء و الاجتماع بنفس بروديلي واضح للكشف عن معالم التحولات التاريخية التي عرفها مجال الصيد البحري بالسواحل المغربية في ارتباط بحركية الإنتاج الاقتصادي لبلادنا في بعدها التاريخي، وما خلفته فترة الحماية من تغيرات بنيوية مست هذا القطاع ككل سواء على مستوى البنية التحتية للمراسي الموانئ أو على مستوى التغيرات التي شملت العنصر البشري الملاحي المغربي العامل بنفس المجال و أيضا التطورات التي عرفتها الشؤون التنظيمية و القانونية التي أطرت العمل الملاحي داخل نفس القطاع، ضمن تصور يأخذ راهنية الموضوع في زمننا الراهن بالحسبان. ولم يفت أغلب أعضاء اللجنة المذكورة التأكيد على أهمية الأطروحة في تسليط الضوء على الأثر الاقتصادي الذي خلفته التجربة الاستعمارية داخل المغرب في النصف الاول من القرن العشرين والتي أرخت بظلالها على معالم الصيد البحري ببلادنا كقطاع إنتاجي ظهر من خلال هذا بحث مصطفى الزعير القيمة الاقتصادية الكبرى التي احتلها في اقتصاد مغرب الحماية خدمة لأهداف استعمارية فرنسية بطبيعة الحال على حسب إفادات اللجنة المذكورة. وبالتالي فالمتتبع لأشغال هذا اللقاء الأكاديمي يمكن له أن يفهم التداعيات التي يطرحها الآن موضوع الصيد البحري في المفاوضات الجارية بين المغرب والاتحاد الاوربي لتدبير المصالح المشتركة الممكن تعزيزها على سواحل المغرب المستقل.
وقد كان أعضاء لجنة المناقشة حريصين أيضا على تقديم بعض الإضاءات التي يمكن أن تخدم الزخم العام الذي جاءت به الأطروحة قبل إخراجها للوجود على شكل كتاب مطبوع، كحديث الأستاذة المشرفة ليلى مزيان عن الآفاق البحثية التي مازالت مطروحة أمام الموضوع سواء ما يتعلق بإمكانية إجراء مقارنة للتدبير الذي هم قطاع الصيد البحري في الساحل المغربي بين فرنسا و إسبانيا إبان فترة الحماية أو ما يتعلق بضرورة تسليط الضوء على بعض الموانئ التي لم تأخذ حقها في العمل خاصة في الشمال المغربي عند مقاربة موضوع البحث و هو أمر أكدت المتدخلة أن منطق عمل الفرق البحثية هو الأقدر على الاضطلاع به من خلال إنجاز بحث تاريخي شامل بمقاربة ميدانية للحركية التاريخية لكل ميناء على حده على طول الساحل المغربي.
وقد حرص الأستاذ علي الهدهودي بدوره على توجيه الباحث الزعير إلى ضرورة الانتباه إلى بعض عناوين الجرائد و الدوريات المنتمية في صدورها إلى الحقبة الزمنية موضوع البحث، والتي يمكن أن تطعم الأطروحة بمعطيات تاريخية خاصة المرتبطة بالشق القانوني و التنظيمي لقطاع الصيد البحري ببلادنا خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية. في حين فضلت الأستاذة سناء حساب تنبيه الطالب الباحث مصطفى الزعير، لضرورة تصويب بعض الإشارات الطوبينيمية حين حديثه عن بعض وحدات تمليح السمك في شمال البلاد خلال الفترة القديمة ضمن رصده لجذور الصيد البحري والصناعات المرتبطة به تاريخيا في المغرب. و لا ننسى هنا بطبيعة الحال الملاحظات التي قدمها الأستاذ جلال زين العابدين في هذا السياق والمرتبطة ببعض الجوانب اللغوية والشكلية لهذا العمل البحثي. و قد حرصت بدورها الأستاذ مليكة الزاهدي في آخر هذه المناقشة العلمية على دعوة الطالب الباحث لإصدار معجم خاص بالقاموس المفاهيمي الغني الذي جاءت به الأطروحة والذي له علاقة مباشرة بالتاريخ البحري في شقه الاقتصادي و الملاحي التقني المرتبط بجزء مهم من تاريخ البحر في المغرب طالما أن البحث حسب نفس المتدخلة نجح نسبيا في مقاربة موضوع الصيد البحري ببلادنا زمن الحماية الفرنسية عير الاستعانة أساسا بتنوع للمصادر الأرشيفية و استثمار ملحوظ للتحليل الرقمي المبياني. ولم يفت نفس المتحدثة على التأكيد على ضرورة اشتغال البحث الزعير على تسليط الضوء أكثر داخل الاطروحة على حضور المرأة المغربية في التحولات التي عرفها القطاع المذكور خلال الفترة الزمنية موضوع الدراسة كعنصر بشري كان حاضرا بقوة في العمل على صعيد وحدات تصبير السمك بعدد من ما يكن أن تسميه المدن الموانئ المغربية إلى الآن. و بعد مداولات لجنة المناقشة قررت هذه الأخيرة منح الطالب مصطفى الزعير شهادة الدكتوراه في الآداب تخصص التاريخ المعاصر عن موضوع بحثه المذكور بميزة مشرف جدا مع توصية بالنشر.