تعتبر نازلة التحكيم لدى مجلس المنافسة بخصوص تسعير ثمن منتوج السردين الذي توافقت عليه هيئات بعينها نصبت نفسها وصيا على قطاع الصيد البحري وتجارة السمك، محطة تاريخية جد مهمة في تاريخ قطاع الصيد البحري، وضربة قاصمة لظهر جهات التغول في قطاع الصيد البحري وانتصارا لدولة المؤسسات.
قطاع الصيد البحري الذي طالما كانت تدبر شؤونه داخل دواليب الأندية المغلقة ،و ربما بعد الرأي الاستشاري و ما يستتبع من قرار لمجلس المنافسة، سيفتح الباب على مصراعيه لملفات كانت تحاك و تدبر في صمت ، و يتم تنزيلها بتخراج العينين ، كملف صدريات النجاة الذاتية النفخ والملف الدسم لقوارب الصيد التقليدية المصنوعة من البوليستير و ربما قد تتفجر ملفات أخرى في ذات الموضوع.
اللجوء الى مجلس المنافسة كمؤسسة تحكيمية من طرف الجهات المتضررة ، ينم عن تنامي الحس و الوعي بممارسة الحقوق و دور المؤسسات في دفع المظالم ، و ربما سيأتي الدور على مؤسسة الوسيط ، وقد تتطور الأمور الى التحكيم لدى مؤسسات دولية ما دام المغرب طرفا في العديد من الاتفاقيات الدولية في الصيد البحري و التجارة.
نازلة الاتفاق على الزيادة في ثمن السردين من جانب واحد ، دون اعتبار للمستهلك (صناعيو السمك و المواطن) قبيل شهر رمضان الأبرك تحت ذرائع الوضعية السوسيو اقتصادية للبحارة، يدعو الى مراجعة العلاقات البيمهنية على سلسلة القيمة، من البحار الى المستهلك، مرورا عبر المجهز و تاجر السمك ، و خدمات التموين و اللوجيستيك…
عودة الى اشهر قبل دخول مجلس المنافسة على الخط ، حيث ترتيب الاحداث و ربط السياقات من الأهمية بما كان في قطاع الصيد البحري التي تبدو ذاكرته اشبه بذاكرة السمك.
تابعنا تطور الاحداث التي انطلقت كالعادة بخروج أصوات بعض التمثيليات النقابية التي تطالب برفع ثمن السردين كمرحلة أولى فيما يشبه “تسعير النار”و “تسخين البندير” تعبيدا لطريق اللاعبين الفعليين و هم المجهزون و بدرجة أكبر تجار السمك الذين هم نفسهم المجهزون.
و كيف تم ترتيب اجتماع مع الإدارة الوصية بحضور معالي الوزير و الطاقم الإداري ، و كيف تم اقحامه معاليه في هذا الملف الشائك للمرة الثانية ، بعد توريطه في ملف سابق وهو تمديد الراحة اليبولوجية للأخطبوط و اغلاق مصاد الجنوب قبل سنتين و ما تبت عنه من كوارث اجتماعية في حق البحارة .
الاشكال الكبير -ولو أن رأينا مزعج للبعض- هو أن عقلية الرايس في قطاع الصيد البحري تأبى التغيير و حتى الإقرار بوجود أطراف شريكة في الإنتاج، و تعد حلقة مهمة في سلسلة القيمة لا محيد عنها. بل يمكن الجزم على أنها هي الحلقة الأقوى و هو صناعيو السمك ، ولو أن منطق القوة غير مقبول في الصيد البحري حيث يفضي الى إغراق السفينة بما فيها و من عليها..
و ربما ما لا يزال يعتمده المجهزون هو موروث ثقافي لامادي، تناقلوه عن مدرسة أكل عليها الدهر و شرب صالت و جالت و استأسدت خلال العقود الماضية قبل 2009.
كما أن استعمال البحارة كحطب لتسعير النيران و التهديد بتعطيل سلسلة الإنتاج و الضرب المبطن للتعاقدات مع الأسواق الدولية ،هو الآخر لم يعد ينطلي الا على فئة محدودة في المكان تنتمي الى المدرسة العتيقة لسوس.
و الحالة ان قطاع الصيد البحري يواجه أكبر ازمة بسبب قوة قاهرة أكبر من صناع القرار أنفسهم و من الفاعلين الاقتصاديين ، لا الغرف و لا الصناعيون قادرين على مواجهتها و هي احترار المحيطات و تداعياته على النظم الايكولوجية البحرية.
و للأسف الشديد، لم تجرؤ أي تمثيلية مهنية لا على مستوى الغرف و الأربعة و لا جامعتها، و على حتى على مستوى مجلس المستشارين و لا مجلس النواب لطرح الاشكال، و دعوة الحكومة لحماية القطاع من أي انهيار على من فيه.
عوض ذلك، يتخذ الجميع “موقف النعامة” و الترقب ، و في الحد الأدنى طرح إشكالات مستهلكة من ادل الاستهلاك، كالحماية الاجتماعية و غض الطرف عن حالة القصور التي تطبعها ، و لا أدل على ذلك من ابتلاع كل الهيئات المهنية في الصيد البحري لسانها تنديدا بالمجازر التي اقترفتها مراكب صيد السمك السطحي بالمصيدة الأطلسية الوسطى في حق الثروة السمكية، من السردين و الانشوفة، سعيا وراء الربح في شهر رمضان الأبرك ، تحت مبرر “التمعش” و “العيد” وظروف البحارة ….و مبررات واهية يتقاسمها الربان و معاونوه و كذلك رب المركب.
الشاهد من اثارة هذا الموضوع كتعليق على قرار مجلس المنافسة، هو التذكير بقوله تعالى “ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا”، فالدعوة الى الزيادة في ثمن السردين باسم البحارة لم يكن خالصا ، بدليل أن الاجتماع الرسمي مع صناع القرار في الصيد البحري غيب ممثلي البحارة من النقابات، و هو مؤشر جد مهم يكرس الهيمنة و الحكرة في تقرير مصائر أكثر من 30 الف بحار في الصيد السطحي دون احتساب بحارة اسطول قوارب السويلكة.
فالقاعدة النضالية تقول أن الحقوق تنزع و لا تعطى، و يمكن انتزاعها الحقوق بشرف و في ضوء النهار و عبر الوسائل المشروعة ، و بتشاور مع جميع الأطراف المتدخلة ، و لكن قبل كل ذلك، يجب تنظيف الأجواء من الشوائب و الخلفيات الجاهزة، و التحرر من عقلية المدرسة العتيقة، و اعتماد مبدئ الشفافية و الحوار المفتوح و بحث البدائل و سبل الترقية الاجتماعية و المهنية للبحارة و كذلك لشغيلة الوحدات الصناعية و العاملين على طول سلسلة القيمة ، حتى لا تكون الصدمة قوية و الانتكاسة جارحة و تعمق الهوة بين الشركاء في الإنتاج و الشركاء الاجتماعيين.
كتبها للمغرب الأزرق الأستاذ حاميد حليم
مستشار في الإعلام البحري و التواصل
عضو المرصد الإعلامي للصيد المستدام بأفريقيا.