تواجه سواحل الأطلسي الشرقي تراجعًا مقلقًا في مخزون سمك السردين، وهي ظاهرة تُعزى إلى عوامل متعددة أبرزها الصيد الجائر، والاحترار الحراري، بالإضافة إلى احتمالية انحسار تيار الأليزيه (تيار الكناري) الذي يلعب دورًا حيويًا في رفع العوالق النباتية (البلانكتون) من الأعماق، وهي الغذاء الأساسي للسردين. و هو ما يمثل تهديدًا مباشرًا للنظم البيئية البحرية، وللأنشطة الاقتصادية المرتبطة بقطاع الصيد البحري في المنطقة.
فالاستغلال المفرط للموارد السمكية، خاصة من قبل الأساطيل الصناعية الكبيرة، يشكل السبب الرئيسي لتناقص أعداد السردين، اذ غالبًا ما تتجاوز الاساطيل القدرة الإنجابية للأنواع و الاستخلاف، مما يمنع المخزون من التجدد الطبيعي.
كما أن ارتفاع درجة حرارة مياه المحيطات اثر بشكل مباشر على بيئة السردين و هو صنف يفضل المياه الباردة الغنية بالأكسجين، حيث أن تغير درجات الحرارة يؤثر على مناطق تواجده وتكاثره، ويغير من توزيع الأنواع الأخرى التي قد تكون مفترسة له أو تتنافس معه على الغذاء.
عامل أخر اثر بشكل كبير على نمط عيش اسماك السردين و هو انحسار تيار الأليزيه (الكناري)، هذا التيار البارد العميق يلعب دورًا حاسمًا في ظاهرة “الارتفاع الرأسي للمياه” (Upwelling)، حيث يدفع المياه الغنية بالمغذيات من الأعماق إلى السطح. حيث تعد هذه المغذيات أساس نمو العوالق النباتية (البلانكتون) التي يتغذى عليها السردين. فضعف هذا التيار أو انحساره، يقلل من فرص توافر الغذاء، مما يؤثر سلبًا على أعداد السردين وقدرته على البقاء والتكاثر.
التلوث البحري هو الآخر بأنواعه المختلفة (البلاستيك، المواد الكيميائية، المخلفات الصناعية) يؤثر على جودة الموائل البحرية وصحة الأسماك، مما يزيد من الضغط على مخزون السردين،خصوصا و أن المنطقة الأطلسية الشرقية هي منصة للانشطة الاقتصادية و التجمعات البشرية و للملاحة البحرية، و هي عوامل تركز التلوث في المنطقة و تؤثر بشكل مباشر على جودة حياة النظم البيئية.
و لأن النظم البيئية جد حساسة فإن التغير في أعداد المفترسات الطبيعية للسردين أو الأنواع المنافسة على الغذاء قد يؤدي إلى تفاقم مشكلة تراجعه.
توقعات مستقبلية: سيناريوهات محتملة
في ظل استمرار العوامل دون تدخل حازم و مسؤول ، فإن التوقعات المستقبلية قد تكون مقلقة حيث يبقى انهيار مخزون السردين احتمالا رئيسيا في أسوأ السيناريوهات ، مما يعني صعوبة بالغة أو استحالة لتجدده بشكل طبيعي في المستقبل القريب. و هذا التراجع سيؤثر سيؤثر بالتسلسل على الوضعية السوسيو اقتصادية لآلاف الصيادين والعاملين في الصناعات المرتبطة بالصيد ، مثل وحدات التثمين والمعالجة…. قد يؤدي ذلك إلى فقدان الوظائف وتدهور الأوضاع الاجتماعية في المجتمعات الساحلية التي تعتمد بشكل كبير على هذا القطاع.
تراجع السردين و اختفاؤه سيصيب النظام البيئي البحري باضطراب كبير، حيث يلعب السردين دورًا مفصليًا في السلسلة الغذائية البحرية كغذاء لأنواع أكبر من الأسماك والطيور البحرية والثدييات البحرية.
و بعدما كان المغرب أحد الأقطاب الدولية في انتاج السردين ، سيضطر الى إلى البحث عن أسواق التموين للمحافظة على أنشطة الصناعات السمكية في الحد الأدنى، و لتلبية احتياجات سوق الاستهلاك الداخلي، مما يضع ضغطًا إضافيًا على العملة الصعبة.
حلول مستدامة: مقاربة شاملة لإنقاذ الموارد
يتطلب مواجهة هذا التحدي الكبير مقاربة شاملة ومتكاملة ترتكز على التعاون الإقليمي والدولي، وتتضمن ما يلي:
- الإدارة المستدامة للمصايد:
- تحديد حصص صيد علمية: يجب أن تستند حصص الصيد إلى دراسات علمية دقيقة للمخزون، مع أخذ قدرته على التجدد في الاعتبار، وتطبيق هذه الحصص بصرامة.
- تطبيق فترات راحة بيولوجية: فرض فترات زمنية محددة يُمنع فيها الصيد تمامًا للسماح للسردين بالتكاثر وتجديد المخزون.
- حظر طرق الصيد المدمرة: منع استخدام شباك الجر القاعية في المناطق الحساسة، والشباك التي لا تفرق بين أنواع الأسماك أو أحجامها.
- تشجيع الصيد الانتقائي: دعم التقنيات التي تستهدف أنواعًا معينة وتسمح للأسماك الصغيرة بالنمو.
- مكافحة الصيد غير القانوني وغير المصرح به وغير المنظم:
- تعزيز المراقبة والتفتيش: تكثيف دوريات المراقبة في البحر والموانئ و أسواق الاستهلاك.
- تطبيق عقوبات صارمة: فرض غرامات وعقوبات رادعة على المخالفين لمنع تكرار الممارسات غير القانونية.
- التعاون الإقليمي والدولي: تنسيق الجهود بين الدول الساحلية فيما يخص المصايد المشتركة.
- التكيف مع التغيرات المناخية وحماية البيئة البحرية:
- حماية الموائل البحرية: إنشاء وتوسيع المناطق البحرية المحمية، والحد من التلوث البحري بكافة أشكاله.
- دعم البحث العلمي: تخصيص المزيد من الموارد لدراسة تأثيرات التغيرات المناخية على المخزونات السمكية وفهم ديناميكيات تيارات المحيطات بشكل أفضل.
- تطوير القيمة المضافة للمنتجات السمكية:
- تثمين منتجات الصيد: تتبع و مسار المنتوجات المجمدة و حصرها في تموين مصانع التصبير بدلاً من تصديرها كمادة خام أو توجيهه لتسمين التونة ، لزيادة القيمة الاقتصادية للقطاع وتقليل الضغط على المخزون.
- تنويع مصادر البروتين البحري: تشجيع تربية الأحياء المائية المستدامة لتقليل الضغط على المصايد الطبيعية.
الوضع الراهن لا يحتمل التراخي والتباكي بقدر ما يتطلب استجابة سريعة وفعالة من جميع الأطراف المعنية، من الحكومة إلى التنظيمات المهنية و المؤسسات العلمية و الجامعات… و ابداع حلول لضمان استمرارية هذا المورد الحيوي للأجيال القادمة.
فحالة المغرب ليس مستجدة، بل هي نسخة مكررة عبر الكرة الأرضية ، حيث شهدت العديد من المناطق حول العالم تراجعًا في مخزون السردين وأنواع الأسماك السطحية الصغيرة الأخرى ، حيث تعاملت معها بطرق مختلفة، بعضها حقق نجاحًا ملحوظًا في التعافي، بينما لا يزال البعض الآخر يواجه تحديات، وهي تجارب يمكن الاستفادة منها.
- سردين المحيط الهادئ قبالة سواحل كاليفورنيا (الولايات المتحدة):
شهد مخزون سردين المحيط الهادئ قبالة سواحل كاليفورنيا انهيارًا دراميًا في منتصف القرن العشرين بسبب الصيد المفرط والعوامل البيئية الطبيعية (مثل التغيرات في أنماط التيارات البحرية ودرجات الحرارة)، حيث أدى هذا الانهيار إلى إغلاق المصايد بشكل شبه كامل لفترات طويلة. و لمواجهة الظاهرة، اعتمدت الولايات المتحدة نهجًا صارمًا في إدارة المصايد، تضمن:
- تحديد حصص صيد صارمة: بناءً على التقييمات العلمية للمخزون.
- فترات إغلاق للصيد: للسماح للمخزون بالتعافي.
- مراقبة قوية للأنشطة غير القانونية.
- التركيز على البحث العلمي: لفهم أفضل لديناميكيات المخزون وتأثير العوامل البيئية.
على الرغم من التقلبات الطبيعية في أعداد السردين، إلا أن المخزون شهد فترات تعافٍ سمحت باستئناف الصيد بشكل مستدام، وإن كان بحذر شديد. اذ لا تزال الإدارة حذرة بسبب الحساسية الكبيرة لهذه الأنواع للتغيرات البيئية.
- سردين شبه الجزيرة الأيبيرية (البرتغال وإسبانيا):
شهد مخزون السردين في المنطقة الأيبيرية (قبالة سواحل البرتغال وإسبانيا) تراجعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، ما أثر على قطاع الصيد التقليدي والصناعات المرتبطة به. وقد اتخذت الدولتان، بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، عدة إجراءات منها :
- خفض حصص الصيد بشكل كبير: للحد من الضغط على المخزون.
- تطبيق فترات راحة بيولوجية.
- تحسين المراقبة والتحكم في أنشطة الصيد.
- تعزيز البحث العلمي: لفهم أعمق للعوامل البيئية والمناخية المؤثرة على السردين.
- دراسة نهج الإدارة القائم على النظام الإيكولوجي: والذي يأخذ في الاعتبار دور السردين كنوع أساسي في السلسلة الغذائية.
بفضل هذه التدابير، تمكن المخزن من استرجاع بعض من عافيته ولو بنسب أقل، اذ لاتزال إدارة مستمرة وحذرة لضمان استدامته على المدى الطويل.
- سردين الخليج الياباني (اليابان):
شهدت اليابان في الماضي تراجعًا في مخزون السردين في الخليج الياباني، حيث تم اعتماد إدارة قوية للمصايد بما في ذلك تحديد حصص الصيد وتطبيقها بصرامة مع وضع برامج إعادة التوطين وإدارة الموائل لتحسين بيئة تكاثر السردين، فضلا عن توسيع التعاون الوثيق بين العلماء والصيادين وصناع السياسات ، حيث أظهرت بعض المخزونات تعافيًا بفضل الجهود المشتركة، لكنها تظل متأثرة بالتقلبات البيئية الطبيعية.
دروس مستفادة وحلول مستدامة:
تُظهر هذه التجارب أن التعافي من تراجع مخزون السردين ممكن، ولكنه يتطلب مقاربة متعددة الأوجه ومستمرة:
- الإدارة القائمة على العلم:
- تقييمات المخزون المنتظمة: يجب أن تستند قرارات الإدارة إلى أحدث البيانات العلمية حول حجم المخزون وصحته.
- نماذج التنبؤ: تطوير نماذج تأخذ في الاعتبار تأثيرات التغيرات المناخية والظواهر المحيطية (مثل تيارات الارتفاع الرأسي للمياه) على توزيع السردين ووفرته.
- إدارة الصيد الفعالة والرقابة الصارمة:
- حصص صيد مرنة: يمكن تعديلها سنويًا بناءً على حالة المخزون.
- إغلاق مواسم الصيد ومناطق الحماية: حماية مناطق التكاثر والتغذية.
- مكافحة الصيد غير القانوني: بتعزيز التعاون الإقليمي وتبادل المعلومات، و تشديد المراقبة مع تعظيم العقوبات لضمان الامتثال لقواعد الصيد.
- النهج البيئي المتكامل (Ecosystem-Based Management):
- النظر إلى السردين كجزء من نظام أكبر: فهم دوره في السلسلة الغذائية وتأثير العوامل البيئية على الأنواع الأخرى التي تعتمد عليه.
- حماية الموائل الحرجة: مثل مناطق الارتفاع الرأسي للمياه والمناطق الساحلية التي تستخدمها الأسماك الصغيرة كحضانة.
- الحد من التلوث البحري: بتقليل النفايات البلاستيكية والمواد الكيميائية التي تؤثر على صحة المحيط.
- التكيف مع تغير المناخ:
- دراسة تأثير ارتفاع درجة حرارة المحيطات: وتغير أنماط التيارات على ديناميكية السردين.
- تطوير استراتيجيات تكيف: مثل تعديل مواسم الصيد أو مناطق الصيد بناءً على تغيرات توزيع السردين.
- المشاركة والتعاون:
- إشراك جميع أصحاب المصلحة: بما في ذلك الصيادين والعلماء وصناع القرار والمجتمعات المحلية في صياغة وتنفيذ خطط الإدارة.
- التعاون الإقليمي والدولي: خاصة للدول التي تتقاسم نفس المخزونات السمكية، مثل دول الأطلسي الشرقي (جنوب اوربا-شمال افريقيا/ غرب افريقيا)
كتبها للمغرب الأزرق الاستاذ حاميد حليم
مستشار في الإعلام البحري و التواصل
عضو المرصد الاعلامي للصيد المستدام بأفاريقيا