يؤكد الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى الـ26 لعيد العرش المجيد على رؤية ملكية واضحة لمستقبل المغرب، رافضاً “مغرباً يسير بسرعتين” وداعياً إلى انتقال جذري من المقاربات التقليدية للتنمية الاجتماعية نحو “مقاربة للتنمية المجالية المندمجة”. في هذا السياق، وجه جلالة الملك الحكومة لاعتماد “جيل جديد من برامج التنمية الترابية” يرتكز على “تثمين الخصوصيات المحلية وتكريس الجهوية المتقدمة، ومبدأ التكامل والتضامن بين المجالات الترابية”.
هذا التوجيه الملكي يجد صداه بقوة في قطاع حيوي كالصيد البحري ، حيث كشفت أزمة تراجع مخزون السردين “ج” عن ضرورة ملحة لإعادة النظر في السياسة القطاعية المتبعة بكل جرأة و مسؤولية تشاركية قوامها التجرد و التضامن.
فالمقاربة الحالية للصيد البحري غالباً ما تتعامل مع الثروة السمكية كشأن “خاص وحصري” للقطاع ، بينما هي في الواقع شأن عام ومجالي يتطلب تضافر جهود عدة قطاعات ، مثل البيئة والتنمية المستدامة، والداخلية فيما يخص الأمن والمراقبة وحفظ النظام و التنمية البشرية.
إن الدعوة الملكية إلى تثمين الخصوصيات المحلية وتكريس الجهوية المتقدمة تدعو صراحة إلى اعتماد “التنطيق” في الصيد البحري بمقاربة جهوية ، تخضع لسلطة الوالي أو العامل باعتباره ممثل صاحب الجلالة والمسؤول الأول على حفظ مصالح دائرته الولائية و رئيس اللجنة الجهوية لمخطط الساحل ، ليصبح الوالي أو العامل الأجدر بالإشراف على تدبير الموارد البحرية داخل نطاقه الترابي ، بما يضمن التوازن بين الاستغلال والرسملة المستدامة ،و التنسيق المحكم بين السلطات المتدخلة في الصيد و على رأسها المراقبة برا و بحرا ،و كذلك ما يتعلق بالانقاذ و ادارة الأزمات على المستوى المحلي .
المفارقة الحالية تكمن مثلا في أن أساطيل الصيد في أعالي البحار قد تباشر عمليات الصيد المكثف في المنطقة الجنوبية و تحديدا جهة الداخلة كمنطقة غنية بالثروات البحرية و تحديداً الرخويات و القشريات الكبيرة … هذه الأساطيل، لا تكتفي باستنزاف المخزونات السمكية دون تمييز ، بل تترك وراءها قاع بحر مدمر و أطناناً من النفايات والشباك الشبحية التي تواصل “الصيد السلبي” لعقود ، مما يؤثر بشكل كارثي على النظم البيئية المحلية،و تضرب تداعياته الاصناف الاخرى كالصيد السمك السطحي و الصيد التقليدي…و التنمية المحلية.
المثير للتساؤل هو أن هذه المصطادات الضخمة يتم نقلها إلى موانئ بعيدة ، كميناء أكادير على سبيل المثال، لتفريغها تخلق دينامية سوسيو-اقتصادية تستفيد منها مدنية أكادير و جهة سوس ماسة ، من خلال فرص الشغل التي تنشطها او تولدها ولو بشكل موسمي في أنشطة التفريغ والتحويل ، و تمتد لتشمل الرسوم المؤداة للمكتب الوطني للصيد ، والمنافع الاقتصادية المرتبطة بالنقل واللوجستيك والتموين ، والتحويلات المالية التي تعود بالنفع على جهة الاستقبال. في المقابل، تعاني جهة الداخلة ، التي هي مصدر هذه الثروات ، من تدهور بيئي في نظمها الإيكولوجية البحرية، مما يؤثر سلباً على المخزونات السمكية المتبقية.
هذه التداعيات البيئية المباشرة على المنطقة تُكلف الدولة مزيداً من الدعم الموجه لتعويض الأضرار أو للحفاظ على استقرار المنطقة. وهكذا، يصبح المستثمر هو الرابح الأكبر على المستويات الاقتصادية والاجتماعية ، و تكون غرفة الصيد بالحري الأطلسية الوسطى هي التي تحدد مصير جهة الداخلة وادي الذهب.
تذكّرنا الأزمة الحالية لمخزون السردين “ب” و “ج” في الأقاليم الجنوبية ، وبخاصة جهة الداخلة، بسيناريو مؤلم سبق أن عاشته المنطقة قبل عقدين من الزمن، لما انهار مخزون الأخطبوط بجهة الداخلة، ليُسقط معه كل ركائز الاقتصاد المحلي. فترة عصيبة لا تزال عالقة في ذاكرة شريحة واسعة من المهنيين و الساكنة على السواء ، عرفت إفلاس الآلاف وتشريد عشرات الآلاف من العمال والصيادين، في مشهد يعكس حجم الكارثة الاقتصادية والاجتماعية. والمثير للجدل أن الشركات الكبرى العاملة في الصيد بأعالي البحار المحسوبة على مدن بعيدة ب1000 كلم تم إنقاذها ، لكن ذلك كان على حساب أسطول الصيد التقليدي المحلي الذي تم تفكيك جزء مهم منه ، ليترك الصيادون الوافدون من مدن بعيدة يواجهون مصيرهم .
أزمة الأخطبوط لم تكن سوى حلقة في سلسلة من الأزمات المتكررة و المتنوعة التي عصفت بمدن ساحلية مغربية عبر الزمن كالحسيمة، العرائش، آسفي، أكادير، طانطان، والعيون، حيث عانت كلها من أزمة تدهور مخزون السردين . هذا النمط يتكرر باستمرار، حيث تهاجر الأساطيل والخبرات المهنية أوطانها بحثاً عن الوفرة في مناطق أخرى غنية بالثروة السمكية. و سرعان ما تتحول هذه المناطق(مناطق الجذب) بدورها إلى مناطق “طرد”، بعد استنزاف مصايدها نتيجة تضاعف الضغط، في تأثير أشبه بـ”قطع الدومينو” المتساقطة.
هذه الدورة المتكررة من الاستنزاف والانهيار ، تخلف وراءها تركة ثقيلة، بعد فترة وجيزة من الدينامية السوسيو-اقتصادية الظاهرية، حيث تتحول المناطق إلى بؤر للفقر والهشاشة والبطالة. هذا الوضع لا يلقي بظلاله على السكان فحسب، بل يضع عبئاً ثقيلاً على الإدارة الترابية وحدها التي تجد نفسها مسؤولة عن تكلفة الحفاظ على الاستقرار والأمن والسلم الاجتماعي، ومكافحة الجريمة التي تتفاقم في ظل اليأس والإحباط.
إن هذه التجارب التاريخية يجب أن تكون دافعاً قوياً لإعادة التفكير في حوكمة قطاع الصيد البحري، واعتماد سياسات تضمن الاستدامة الحقيقية للموارد وتحمي المجتمعات المحلية من ويلات “نكبات” الصيد الجائر.
هذا النموذج المبسط الذي يختزل عمق الازمة التي يتخبط فيها قطاع الصيد البحري ، لا يتماشى مع الرؤية الملكية الرافضة لـ”مغرب بسرعتين”، ولا مع مبادئ التنمية المجالية المندمجة والعدالة الترابية. لذلك، يستدعي الوضع إعادة صياغة شاملة لسياسة الصيد البحري، بما يضمن دمجها ضمن الإطار الأوسع للحوكمة الترابية. اذ يجب على السلطات المحلية، ممثلة في الوالي أو العامل، أن تتولى دوراً محورياً في تدبير الموارد البحرية داخل نطاقها ، لضمان استدامة هذه الثروات، وتحقيق توزيع عادل للمنافع برا و بحرا ، وتحميل التكاليف البيئية للمستفيدين، بما ينسجم مع خصوصيات كل جهة ويساهم في تنمية شاملة ومتوازنة. هذا التغيير ضروري لضمان أن تكون الثروة السمكية رافعة حقيقية للتنمية المحلية، بدلاً من أن تكون مصدراً للاستنزاف البيئي والاجتماعي، فالثروة السمكية هي ثروة وطنية و المحافظة عليها و استدامتها هي مسؤولية جماعية و مشتركة.
كتبها للمغرب الأزرق الاستاذ حاميد حليم
مستشار في الإعلام البحري و التواصل
عضو المرصد الاعلامي للصيد المستدام بأفريقيا