تمتد سواحل المغرب على مسافة 3500 كيلومتر، وتضم أحد أغنى التنوعات البيولوجية في العالم. لكن تحت سطح مياهه الزرقاء، تنئن البيئة البحرية تحت وقع ضغط هامل من التلوث المتنوع ، ما يهدد النظم البيئة في القاع و ينذر بكارثة بدت معالمها تتجسد . و بين وزارات تختص بالصيد، وأخرى تُناط بها حماية البيئة، وأجهزة رقابية تمتلك أدوات التدخل، يبرز سؤال جوهري: من يحمي محطينا؟.
منذ أكثر من عقد، تبنّت وزارة الصيد البحري نظام “مخططات التهيئة” كوسيلة لتنظيم استغلال المصايد. تقوم على منطق ضبط الكميات، ومراقبة المصطادات، وتتبع نشاط الأساطيل. لكن خلف الأرقام التي تُعلَن كل سنة، يغيب تقييم جوهري : ما الثمن البيئي لهذا الاستغلال؟
حسب تقرير للمعهد الوطني للبحث في الصيد البحري صدر في 2023 فإن 40% من المخزون السمكي في الأطلسي يعاني(آنذاك) من الافراط في الصيد خاصة السردين و الحبار حيث بات هذين المخزونين مهددين بالنضوب ، و في دراسة نشرت سنة2022 بمجلة Fisheries Research، ، فإن 95 ألف طن من الكائنات البحرية تُلقى ميتة سنويًا كمرجعات عرضية. حيث تُظهر دراسات أن الصيد العرضي (Bycatch) يمثل تحديًا خطيرًا. فبحسب تقارير علمية، قد تصل المرجعات العرضية إلى 30% من المصطادات. وحده أسطول الجر يتسبب في أكثر من 95 ألف طن من المرجعات العرضية سنويًا، فيما يضيف الصيد الساحلي القاعي قرابة 50 ألف طن أخرى. هذه الأرقام، التي تأتي من دراسات علمية معتمدة ، تُثبت أن ما يُقاس هو الكم، لا الاستدامة.
أما تقرير الفاو FAO لمنطقة البحر الأسود و البحر الأبيض المتوسط برسم سنة 2021 فصنف المغرب ضمن الدول ذات المعدلات المرتفعة للصيد غير المستدام في البحر الأبيض المتوسط ، فيما حذر برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP في تقريره برسم سنة 2020 بأن 70% من التلوث البلاستيكي البحري في المغرب مصدره أنشطة الصيد.
في هذا التحقيق، سنكشف كيف تتحول المنظومة البحرية بالمغرب إلى “ساحة حرب” بين جشع البشر وعجز المؤسسات.
بحسب تقارير علمية عن “Marine Pollution Bulletin برسم (2023) ” تؤكد أن 60% من الشعاب المرجانية في الداخلة دُمّرت بسبب الجر القاعي ، و أن كل سفينة جر تُزهق حياة 200 كيلوجرام من الكائنات غير المستهدفة يوميًا. فيما يشير تقرير للجمعية المغربية لحماية البيئة البحرية AMPEM (2024) أن شباك الصيد المفقودة (“الشباك الشبحية”) تقتل 5000 كائن بحري سنويًا.
أما “غرينبيس الشرق الأوسط و شمال افريقيا MENA ” فلم تكن ألطف من غيرها ، حيث أشار تقرير صدر سنة 2023 الى ان المغرب سجل 150 حالة صيد غير قانونية.
هذه المؤشرات تقدم صورة قاتمة حول حالة محيطنا الأزرق و سلوك الانسان و مسؤولية المؤسسات الحكومية في التدخل.
لكن دعونا نرحل صحبة اسطولنا الوطني الى مصيدة جنوب سيدي الغازي حيث تجتمع آلاف قوارب الصيد التقليدي الى جانب مئات مراكب الصيد بجميع أنواعها و عشرات سفن الصيد الصناعي ، و نعيد تشكيل مشهد أسطول يغترف ما يجود به المصيد من اسماك و في نفس الوقت يترك هذا الضيف الثقيل دمارا شاملا في ذات المصيد.
فبالاضافة الى التدمير الميكانيكي لقاع البحر بواسطة معدات الصيد الثقيلة ، و الاسلحة التقليدية من شباك مزدوجة و شباك النيلون او العبوات البلاستيكية (الغراف)، هناك عامل أخر يقتل في صمت و بشكل ناعم، وهو التلوت. حيث يتم التخلص بذات الرقعة الجغرافية كميات هائلة من الزيوت و الاثقال و النفايات، كما يتم التخلص من الشباك ….
و بسبب التطور التكنولوجي في سوق المصابيح الكهربائية ، ظهر لاعب جديد على رقعة ملعب الدمار الصامت للبيئة البحرية ، و هو الكشافات ، حيث تجري جريمة صامتة تحت جنح الظلام ، بطريقة مباشرة يمارسها اللاعبون الصغار من قوارب الصيد التقليدي او بطريقة غير مباشرة عند حملات الصيد للمراكب و السفن الكبرى ، حيث يتحول المصيد الى ما يشبه مدينة الانوار . هذه الممارسات الممنوعة بموجب المرسوم 2.94.391، تعمل على جذب الأحياء البحرية الصغيرة والأسماك التي لم تصل بعد لسن التكاثر، و الرخويات أو تلك التي تنشط في الليل ، و على ضوء القمر ، مما يساهم في إضعاف المخزون السمكي . كما تسبب هذه الأضواء القوية إخلالا بالسلوك البيولوجي للأسماك، خاصة في فترات التغذية أو الهجرة، مما يسهل اصطيادها بكميات كبيرة.
تزداد حدة هذه الظاهرة، خاصة في مناطق الصيد الغنية، حيث تجتمع عشرات السفن والقوارب في منطقة واحدة. هذا التسابق على المصايد يولد بيئة من التدمير الجماعي ، ضوضاء وصخب مستمرين وإضاءة ليلية مستمرة تؤثر على الكائنات البحرية، جرف مستمر للقاع ، مما يؤدي إلى تدمير شامل للشعاب المرجانية والأعشاب البحرية، ، اضافة الى رمي النفايات و التخلص من الشباك العالقة و الأسماك العرضية الذي يزيد من معدلات التلوث.
على السواحل المتوسطية، وتحديدًا في مناطق مثل الحسيمة والناظور ، لا تزال البيئة البحرية تتعرض للتفجير من الداخل بواسطة “الديناميت”. و تُظهر الأبحاث أن الصدمة الانفجارية لا تقتل الأسماك الكبيرة فحسب، بل تُدمر بشكل شامل كل أشكال الحياة في دائرة واسعة، بما في ذلك يرقات الأسماك والبيوض والكائنات القاعية.
ووفقًا لتقارير لمنظمات دولية، فإن 90% من الكائنات البحرية المتضررة من الانفجار تغرق في القاع ولا يتم جمعها، مما يُحول المنطقة المستهدفة إلى “مقبرة بحرية” شبه خالية من الحياة.
في العمق، تتجلى أزمة القيم قبل القوانين. فالآلاف من البحارة والربابنة خضعوا لتكوينات مهنية في مؤسسات التكوين البحري ، لكن الاولوية للجانب التقني والملاحة والسلامة، فيما تُعزيز الوعي بالمسؤولية البيئية يبقى من الترف الفكري. النتيجة؟ أجيال من البحارة والمجهزين لا ترى في البحر سوى مورد يجب استنزافه بحذر، وليس نظامًا بيئيًا يجب احترامه. حتى حملات الارشاد و التحسيس الموسمية التي تُنظم لفائدة البحارة تظل غير ذات أثر، إذ تركّز غالبًا على “المحافظة على الثروة السمكية” لضمان الاستدامة الاقتصادية ، أو على السلامة أثناء الإبحار ، دون التطرق إلى التلوث، أو التنوع البيولوجي، أو احترام الأنظمة البيئية.
أزمة القيم ستتجلى حين يتحول من يُفترض أن يكون “المُمثّل المهني الأول” للصيادين إلى فاعل في التخريب البيئي، وتصبح الأزمة بنيوية. فقبل اشهر تمكنت مصالح المراقبة التابعة لقطاع الصيد البحري من ضبط سفينة صيد في أعالي البحار مزودة بـشباك مزدوجة محظورة دوليًا، تعود ملكيتها إلى رئيس غرفة الصيد البحري الأطلسية الوسطى بأكادير. حيث بقيت المتابعة القضائية في المنطقة الرمادية .
أما السؤال الذي يطرح نفسه فعن حدود سلطة وزارة “الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة”، باعتبارها الوصي على “قطاع البيئة” حين يتعلق الأمر بتلويث البحر أو تدمير موائله. فلا دراسات تقييم الأثر البيئي تُنشر، ولا تتبع علمي للتلوث البحري، ولا تقارير عن الضجيج الصناعي تحت الماء. رغم توفر الخزانة الوطنية على ترسانة قانونية جد متقدمة كالميثاق الوطني للبيئة و التنمية المستدامة، و القانون 12.03 الخاص بدراسات التأثير على البيئة، و حتى الفصل 31 من الدستور الذي يضمن الحق في بيئة سليمة، و الالتزامات الدولية مثل اتفاقية ماربول واتفاقية باريس. وهو ما يشكل تحييدا إراديا لوزارة البيئة، التي تتخلى عمليًا عن اختصاصاتها في المجال البحري.
في مقابل هذا التدهور الصامت تحت سطح الماء، و البعيد عن النقاش ، تتجه الأنشطة الرسمية إلى تسويق صورة مثالية للشواطئ، احتفالات بالحصول على “اللواء الأزرق”، وحملات موسمية لجمع النفايات البلاستيكية، ونشر بيانات عن جودة مياه الاستحمام. وإن كانت هذه المبادرات مهمة في التوعية، إلا أنها لا تُعالج المشكل الحقيقي. فالبيئة البحرية ليست الشاطئ فحسب ، بل أيضًا الأعماق، التي تُترك بلا حماية تنهكها الضوضاء و الشباك الشبحية و المواد البلاستيكية الدقيقة و المرجعات العرضية و حتى غير القانونية… خارج دائرة الرصد والتواصل، مما يجعل الحديث الرسمي عن حماية البحر مجرد واجهة تجميلية تخفي هشاشة بيئية حقيقية.
ففي تقريره الصادر سنة 2022 ، انتقد المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي غياب التنسيق بين وزارتي الصيد و البيئة بشان تقييم الأثر البيئي، و ربما يمكن أن يتجاوز المغرب الأزمة بدخول الدرك الملكي البيئي والبحري على الخط ، و هو الذي يتمتع بقدرات لوجستية وتقنية ضخمة (طائرات، طوافات ، خافرات، طائرات مسيرة). فهل هناك من إرادة حقيقية لحماية بيئتنا البحرية تجسد شعار الاستدامة؟.
كتبها للمغرب الأزرق الاستاذ حاميد حليم
عضو المرصد الاعلامي للصيد المستدام بأفريقيا
المستشار في الإعلام البحري و التواصل