لم تعد الحرب ضد الصيد غير القانوني وغير المبلَّغ عنه وغير المنظَّم (INN/IUU) تُحصر في الدوريات البحرية التقليدية فحسب؛ بل انتقلت إلى حلبة الفضاء الرقمي، حيث تخوض خوارزميات الذكاء الاصطناعي معركة ضارية للكشف عن السفن التي تتجنب الرصد وتُعرف بـ “الأسطول المظلم”.
يبدأ هذا التحول من قلب غرفة التحكم الرقمية، حيث تتدفق مليارات نقاط البيانات، مستمدة بشكل رئيسي من نظام تحديد الهوية التلقائي (AIS)، الذي يُعد إلزامياً للسفن الكبيرة ويقوم ببث موقعها وسرعتها باستمرار، ومن نظام مراقبة السفن (VMS)، الذي توفره الحكومات لتتبع السفن المُرخصة. هنا يكمن دور الذكاء الاصطناعي الحيوي؛ فبدلاً من مجرد تجميع المواقع، تستخدم نماذج التعلم الآلي المعقدة لتصنيف سلوك كل سفينة بدقة متناهية، متنبئة بما إذا كانت في وضع “الصيد”، أو “العبور”، أو تقوم بعمليات “الالتقاء” المثيرة للشك والتي غالباً ما تشير إلى نقل غير مشروع للمصيد. أي انحراف عن السلوك المُصنّف يُطلق تنبيهاً آنياً للجهات الرقابية. إن التحدي الأكبر يكمن في إمكانية تعمد إيقاف أجهزة التتبع لتنفيذ الصيد غير القانوني. لمواجهة هذا التكتيك المراوغ،
اعتُمدت تقنيات الاستشعار الفضائي المتقدمة. يأتي في صدارتها رادار الفتحة الاصطناعية (SAR)، وهو تقنية خارقة قادرة على اختراق الغطاء السحابي ورصد الأهداف المتحركة على سطح البحر ليلاً ونهاراً وفي جميع الظروف الجوية، مُحدداً بدقة مواقع السفن حتى في حالة صمت أجهزة AIS. بالتوازي مع ذلك، تعمل أجهزة الاستشعار البصرية والحرارية، كجهاز VIIRS، على تحديد مواقع سفن الصيد التي تستخدم أضواء ساطعة لجذب الأسماك ليلاً، ما يوفر دليلاً بصرياً حاسماً على النشاط غير المبرر. ولا يقتصر الرصد على السفن الصناعية الضخمة؛ فللتغلب على محدودية الأقمار الصناعية في رصد القوارب الصغيرة في المناطق الساحلية، دخلت تقنيات مكملة حيز التنفيذ، مثل المستشعرات الصوتية تحت الماء (Hydrophones). تُزرع هذه الأجهزة في قاع المحيط لتعمل كآذان صامتة، قادرة على التقاط وتحديد بصمات أصوات محركات السفن وإرسال التنبيهات اللازمة. وفي خط دفاع أخير، يكتمل الإجراء بتعزيز تتبع سلسلة الإمداد باستخدام أدوات رقمية وتقنيات “البلوك تشين”، لتوثيق مصدر المأكولات البحرية من لحظة الصيد، وقطع الطريق بشكل نهائي أمام المصيد غير الشرعي من التسرب إلى الأسواق العالمية.
هذه المنظومة التكنولوجية المتكاملة لم تَعُد مجرد أداة تنفيذ، بل أساسا لحوكمة محيطات أكثر شفافية وكفاءة، وتُمهد الطريق نحو استدامة الموارد البحرية للأجيال القادمة.